الأحد، 1 سبتمبر 2019

أخر أوراق الحب بقلم بوزادة فاطمة الزهراء

أخر أوراق الحب بقلم بوزادة فاطمة الزهراء

في شوارع المدينة المظلمة، تمشي سعاد وقد تملّكها الخوف من ظلال تتحرّك بين الفينة و الأخرى، في مواضع النور من أعمدة الإضاءة، و تختفي حيثما نامت مصابيح لم تجدد عهدتها لعمر جديد. تذّب خطوات الفتاة بحِسٍّ أقرب للحفيف، منه لحسّ الخطى. بعد أن أوقعت المهانة أثقالها على جدعها الممشوق لتلوي قدّها حدّ الانحناء، و في نَفَسها، ينزوي ألمٌ يُقطّع تنهداتها، كأنّها حمم تلفظها أنفاسٌ، حمّلتها دماءُ الشرايين ما جرى فيها من أوجاع الصمت و الكتمان .

بعد ساعات المشي الطويلة،تقرر سعاد أن تغلب خوفها، و تجلس في مقعد مهشّم الظهر، قريب من شارع الشحاذين، تختزل عليه ما حلّ بها من بؤس، بعد أن ناءت عنها سعادتها، و تُركت مقتولة كآخر ورقة في شجرة الحبّ ، تسقط من غصنها لأدنى الأرض، لا تعلم عن حاضرها إلا ظلمته و وحشيّة ضعفها، لتجلس و الحزن مطبق على صدرها، و في يدها حقيبتها الصغيرة تمسكها و كأنها تتمسّك بما يبقيها صامدة في شعاب المجهول الذي أبحرت فيه سفينة أنثى خرقها الظلم و ليس لها بوصلة ترّدها لشاطئ الأمان. تلك الحقيبة التي لا يتعدى طولها ذراعا، هي كلّ ما تملك سعاد بعد أن أصبحت مشرّدة في شوارع المدينة سواء بسواء مع أصحاب الظلال المنهكة التي استلقت على طول الرصيف لا تأبه بمن يمرّ قربها، ما دام التعب مسّها بفيض نعاس يغشاها كما يغشى الشارع إسدال الظلام . هنا في عمق الانهيار و ذروة الوحدة، تستعيد الشابة شريط يومها المسوّد، حين طردتها زوج أبيها من البيت و هو لازال في غيبوبته بالمستشفى، منذ ما يقارب السنتين لا يعلم أحد متى يفيق منها و لا كيف سيعيش بعدها، دون أن يألمَ مما آل إليه حال أسرته في فترة غيابه.

كان عبد الحليم رجلا سعيدا بعمله و عياله من زواجه الأول الذي أمضى فيه أكثر من عشرين عاما، لم يرى فيها بأسا و لا هوانا مع زوجه المصون جهيدة التي أحبّته في أيام دراستهما الأولى، و عانقت أحلامهما، حتى أتّما دراستهما و تزوجا و رزقا بسعاد و عليّ، كانا الأروع في الحبّ و الأكرم في الوصال و الأصدق في تعاملهما مع الجيران. قضى الله أن تتعرّض جهيدة لحادث مرور ينقضي فيه أجَلُها و كذلك تتجمّد بعده سعادة عبد الحليم . كان عليّا حينها لم يتجاوز الأربع سنوات و سعاد في عامها العاشر. كلّ شيء انقلب لحزنٍ عميق كمن خَلع قلبه منه ليعيش على أثير الحنين، مبتور الروح محروما، مهموما لا يعرف كيف يفيق من كابوسه، الذي الْتَهَمَ سعادته كثقب أسود لم يَدَرْ له إلا كوكبيه الصغيرين يدوران في فلكه يجذبانه للحياة تارة و يرميانه في هوّة الفقد تارة أخرى.

عاش عبد الحليم عاما كاملا يصارع الحرمان و يجتهد في تربية صغيريه بما يقدر عليه من رعايتهما و لكّن غيابه للعمل و تركهما في دور الحضانة كان بمثابة الخنجر الذي أسكنته الظروف في عموده الفقريّ كلّما تأخر في الوصول إليهما لجلبهما منها، وهما الوحيدان في الصف الباقيان مع الحارس في أمانة البوابة. كثيرا ما كانت زميلته ليلى تمرّ ببيته ساعة خروجه في نزهة مع صغيريه أخر الأسبوع تنظف الغرف و تعيد ترتيب المطبخ كما تعّد قائمة مستلزمات المؤن الأسبوعية لتبقي كلّ شيء مرتبا و عطرّا بعطر أنوثتها لعلّها تصيب من قلبه موضع الفتنة و تجذبه لحبّها. لم يكن عبد الحليم ليميل لغير التي ملكت قلبه كلّه و رحلت به حيث لا يصل إليه ريح أنثى. لم تذّخر ليلى أدنى صنيع لم تلقي به في هيامها بزميلها الذي كان مضرب الوفاء تتمناه كلّ الزميلات حبيبا لهن. وحدث يوما أن أصيب عليّ بحمى شديدة جعلت منها ليلى فرصة لتتأخر في البقاء برفقة سعاد بعد أن ذهب والدها بأخيها إلى المتشفى و تأخر في رجوعه لبيته. فبقيت في غرفة الصغيرة لصباح الغد و أعدّت لهما الفطور و البسمات لا تفارق وجهها و علِم حينها عبد الحليم حاجة صغيريه لمن ترعاهما بديلة لأمهما. لم تذهب يومها ليلى للعمل و بقيت معهما في البيت حتى عاد الوالد إليهما ووجد البيت تملأه البهجة من فيض ما جمّلته ليلى بفتنتها للصغيرين. انقضت شهور و ليلى تلقي بشباكها على زميلها تتصيّد أدنى الفرص لتتواجد حيثما تبسط هيمنتها و تمسك بقبضتها الأنثوية على حاجة عبد الحليم لها. حين تبين أنه يثق تمام الثقة في رعايتها لصغيريه ادّعت أنها مريضة لتغيب عنه لأيام معدودة. فنالت غايتها من اشتياقه و خوفه عليها مما جعله يفكّر مليا في ضرورة تواجدها معهم لوقت دائم خاصة أنّ سعاد و علي كانا قد تعودا عليها وعلى بطيخها و لعبها معهما. لم يطل تفكيره طويلا ففاتحها بأمر زواجهما و قبلت بسرور شروطه في تركها للعمل و المواظبة على رعاية البيت و الأولاد لكنها اشترطت نصف ملكيّة البيت كتعويض لها على قبولها لشروطه. لم يكن عبد الحليم ممن يجمّعون أسباب الخلاف قبل التآلف و وافق على ما قايضت به عملها. تمّت مراسيم الزواج ليصبح للبيت سيدة جديدة تعصف بكلّ ذكريات جهيدة كزوبعة ترمي بقواعد البيت في قبو أسفله، ليكون لها قواعدها الجديدة و معالم تغرسها بما تقتنيه ليقبع في كلّ زوايا البيت حتى لم تبقي من أثر جهيدة إلا صغريها يخبران عبد الحليم عن زمن الحبّ الذي كان . لم يقدر الزوج على منع الزوجة من حقّها في بيتها و لكنه لم يكن ليتخلى عن حبيبته الأولى فكان كلّما وجد غفلة من ليلى، أو خرجت لحاجاتها تفرّد بذكرياته مع جهيدة في سريرهما في بهو القبو، حيث يكلّمها و يخبرها عن الصغيرين و كيف أنهما بدآ يكبران و يتعلمان رعاية نفسيهما، و قليلا ما يجرأ على ذكر ليلى و كأنه يستحي أن يخبرها أنّه سمح لسواها بالعبث بأغراضها كانت الساعات التي يقضيها في القبو أحبّ الساعات لقلبه. وأشدّها أحزنا تلك التي يرى فيها ليلى تقسو على الصغيرين بحجة أنها حامل و لا تقوى على فوضاهما فكان يصمت و في داخله فوران أبٍّ لا حيلة له مع وضع زوجه.

إلى أن حلّ يوم لم يكن لليلى فيه أن تحسب عاقبة أمرها حين دخل عبد الحليم غرفته بعد الغروب منهكا من أثر السفر، ليجد شموعا تغزوا بعطرها غرفة النوم و يسمع تأوهات ليلى في غمرة الغرام تتلذذ بنهم جسد عشيقها على سرير الزوج المخدوع وقتما كانت هي تحسبه مع شلّة من أصحابه في سفر لن يعود منه إلا عشيّة غدها. من شدّة الصدمة وقف الزوج للحظات متصلّبا لا يصدّق ما تفضحه عيناه قبل أن تمتّد يده لزر الإنارة فيقفز العشيق بخفّة الجن من جحر السرير ليلقي بنفسه من النافدة،ليهرع عبد الحليم نحو ليلى ينقض عليها ليشدّها من شعرها، يجرّها عبر درج السلّم للمطبخ، فيمسك بأكبر سكين على الطاولة لا يفكر إلا في ذبحها و بقر بطنها و من فيه. لم تكن ليلى زوجة أبّ متسلطة بقدر ما كانت امرأة ساقطة تعذرت عليها سبل الخيانة حتى أصبحت تنوّم الصغار بأقوى المنومات في غياب أبيهم، و تلهو مع مدير المؤسسة التي كانت تشتغل فيها كلّما بعث هذا الأخير زوجها في مهمّة خارج المدينة.

بينما همّ يدّق السكينة في قلبها أصابت رأسه ضربة من خلفه ليلتف ويقع أرضا مغشيا عليه. كان العشيق الذي قفز من النافدة في العليّة يتتبّع صراخ عشيقته فهاله ما نوى لها زوجها و تسلل من الباب الخلفي للمطبخ ليحمل مضربا كان معلّقا خلف الباب و يضرب به زوجها بقوة.

ترك المجرمان الزوج ينزف على البلاط و هرعا يفكران في كيفية التستر على جريمتهما فأخفيا كلّ دليل عن الخيانة، و قد تأكدا أن المنوّم لم يسمح باستيقاظ الصغيرين. قاما بإحداث فوضى كدليل على تسلل لص أو أكثر للبيت ليكون ظاهر الأمر عودة الزوج متأخرا من العمل فيصادف المتسللين للسرقة، يقاومهم و يتلقى منهم الضربة القاضية بموته. لكنّ الله شاء لعبد الحليم أن يعيش عمرا أطول في الإنعاش تتشرّب خلاله سعاد ألوان العذاب في رعايتها لأخيها علي مع امرأة لم تعد تخجل في الظهور مع عشيقها بدعوى أنه مدير عمل زوجها و يحسن إليهم، بدأت تستخدم كلّ أساليب القهر النفسي لضحد الثقة في سعاد التي لم تكن إلا خادمة في بيت والدها. مرّت السنة الأولى من غياب الوالد ليزداد الأمر سوء بعد أن وقعَ عليّا من أعلى السلّم في عليّة البيت لتنكسر فقرة في عموده الفقري فيقبع معاقا عن الحركة، فتقرر زوجة الأب أن تزّجه في المستشفى لبقية عمره، لأنها رفضت الاعتناء به. و ما كان لسعاد أن تفعل شيئا وهي لازالت في السادسة عشر من ربيع العمر لم تبلغ بعد السنّ القانوني لكفالته.

بقيت سعاد تتردد في زيارة عليا ووالدها و الحزن لا يفارقها. بقهره لها، جعل ملامحها شاحبة كأنها لم تعرف يوما طعم الفرح، لا تملك أن تغيّر من واقعها شيء و لا تعرف عن أهل أمّها أي أمر، إذ تربّت جهيدة و عبد الحليم في ملجأ للأيتام فكانا هما العائلة الوحيدة لبعضهما، و كانت سعاد الآن كلّ الأهل لأخيها عليّ و أباها الذي لم يفق بعد من غيبوبته.

في يوم من عام حزنها الثاني، حاول العشيق التقرّب منها، من فرط ما فاض من جمالها، فصدّته بقوّة’ بلغ صدّها قلب ليلى، فشعرت أن سعاد قد تنافسها في غريمها. عندها قرّرت طردها من البيت دون رحمة في عشيّة ليلتها المشئومة. أمرتها بلمّ أغراضها و كلّ حاجياتها و أخوها و الخروج من البيت الذي استولت عليه. لكنّ سعاد بعد أن طافت بالغرفتين لم تحمل إلاّ حقيبة الظهر بأقل ما تحتاج إليه، و خرجت لشارع لا يعرف عنها، إلا أنها كانت تقطعه للذهاب للثانوية حيث تتناسى بعضا من همومها، و الليلة يستضيفها في مضيفة الظلام ليستنير بحزنها، حزانى الشحاذين الذين يقطنوه في ظلمته. ينتشرون في نهاره يسعون بين الناس يلقمون الصدقات لعيش لا يجدي فيه السعيّ إلا لعناء أطول. هنا في هذا المقعد المبتور الظهر جالسة سعاد لا تعلم عن مصير غدها، إلا الذي تخبئه حقيبتها من سرّ الأمل المكنوز في جعبتها, مع أوّل شعاع الصباح فتحت سعاد الحقيبة لتخرج منها هاتف والدها الذي بقي مرميا في أرض المطبخ و الذي التقطه عليّا و أبقاه ضمن ألعابه لا يعرف أنّ به سُجّلت أهمُ محادثة في حياتهم. ذلك الهاتف الذي وقع فاشتغلت مسجلته لتشهد على جريمة الزوجة وعشيقها وقتما كانا منهمكين في تزيين مسرح جريمتهما و الذي لملمته سعاد حين رأته في غرفة أخيها بين أغراضه، وهي تحاول أن تجمع بعض ثيابه.

الآن و قد حلّ الصباح يمكنها أن ترحل عن زقاق الشحاذين الذي آواها ليلتها، لتلجأ لشرطة القضاء و تبلغ عن قضيّة تعيد إليها بعض الذي سرقه منها الظلم بلا رحمة .

سعاد تلك النديّة طريدة الحزن تنهض من على المقعد الهرم لتبدأ حربها للبقاء و لتستعيد من رحم الأحزان بعض حبّات الأمل في أنّها ستنتقم يوما ما من الزوبعة التي هدمت أجمل سنين الحبّ و قصفت بأسرتها الغالية قصف الرعد الذي قسم جدع شجرة الحبّ و أحرق أغصانها لتبقى آخر ورقة حبّ فيها عالقة تشهد قبل سقوطها أنها ستعيد الحياة من جذورها ببعض الأمل.



هناك تعليق واحد:

  1. مقال رائع أستاذة فاطمه ، ولكن الأمل مهما كانت الظروف يبقى بإذن الله موجود إلى يوم الدين ، اجعلي كل حياتك سعادة ، أملأيها بالتفاؤل ولا تقنطي من رحمة الله ، فالحياة جميلة إن نحن أردناها أن تكون جميلة ، وبعكس ذلك إن أردناها أن تكون صعبة .
    بعد قراءتي لمعظم المقال حيث لم يسعفني الوقت على قراءته كله ، فقد عرفت بأن هناك اعتراض على الكثير من الأمور ، مع أنها الأقدار تحملنا وتتجاذبنا بإرادة الله يمنة ويسرة ، لا تترددي أبدا بأن تجعلي ثقتك بالله كبيره ، وجدير بنا أن نجعل توكلنا في كل الأمور على الله وحده ، واقبلي مني فائق الاحترام ،،،،

    ردحذف