الجمعة، 12 يوليو 2019

حــين نفتـقد اللغـــة مقال للدكتور محمد البكري

قصة قصيرة .. بها فكرة أكثر من رائعة لست أدرى كيف خطرت بذهنى وأنا شاب صغير ( كتبت سنة 1981 م .. ببداياتى الأولى .. وقد أخذت المجموعة الصادرة اسمها )
""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
______________ حــين نفتـقد اللغـــة ____________
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
كم من مرة سمع فيها عن خاتم سليمان ، ولكنه لم يكن أبداً موضع تصديقه ..
كان يعيش إنساناً بسيطاً .. يؤمن بالله .. مغرما بالتجوال فى دنيا الأفكار ، ويحلو له أن يغرق فى عالم التأملات ، إلى أن كان يوماً عثر فيه على هذا الخاتم العجيب ، فأصبح حقيقة بين يديه يصدقها بكل ما يمكن أن يدرك به من حواس ، ورأى ما رأى من هول ظهور خادم الخاتم يقول له :
: شبيك .. لبيك .. عبدك بين يديك ..
................................................
تماسك فى شجاعة وهو يقول :
: سيدى العفريت .. أنا إنسان لا تهمنى أشياء تلك الحياة .. لأنى فقدت اطماعى كلها ، ولم يعد يعنينى من الدنيا ، غير مجموعة الأفكار التى يعيش بها البشر .. أبحث فيها وأنقب بلا كلل ، وأخيرا بدأت أشعر أن كل الأفكار لا تثير فى نفسى اهتماما .. فقد خبرت عقول البشر ولم يعد هناك ما يستحق منى التأمل فيما يقولون . وإن كنت عزيزى العفريت جاداً فى زعمك ، فلى عندك مطلب واحد ، تحققه لى وأعطيك حريتك ، فى مقابل هذا المطلب الوحيد .
تردد العفريت لحظة وهو يعيد ترتيب أفكاره بسرعة البرق . لقد خبر الإنسان من قبل .. ألم يكن سليمان النبى إنسياً ، وقد أذاقه الهوان أياماً طويلة لا ينساها ، وحتى بعد مماته تركه عبداً لأحفاده دون ذنب يذكره ، وها هو واحد منهم يعيده إلى حقل الذل من جديد وسيسخره فى أعمال لن تتفق وميوله .. أنه يعرف نفسه .. ألم يغضب عليه "سليمان" من قبل لأنه عفريت شاعرى المزاج ، ويتدخل دائماً برأية فيما يُفرض عليه من أعمال .تنهد الجنى فى أسى ، وفرك جبينه وهو يقول فى استسلام ..
: طوع أمرك يا سيدى .. فما هو مطلبك ؟
: لقد سمعت وعرفت من الكتب أن سيدنا سليمان كان يكلم الطيور والحيوانات والحشرات ويعرف لغتها .. فهل هذا صحيح ؟
: نعم يا سيدى .
: إذا فكل ما أطلبه منك هو أن تعطينى هذه القدرة ، وأنا أعطيك حريتك الآن .
لم يكد يطلب منه ذلك حتى دوت ضحكة كأنها الرعد تداعت لها بعض الأشجار ، تكلم بعدها الجنى وقال :
: هل أنت جاد يا سيدى فيما تقول ؟!
: كل الجد طبعاً .
: ألا تطلب منى شيئا آخر مفيداً لك .. إننى أشعر أنك إنسان طيب ، وأود أن أقدم لك ما يكون سبباً فى تذليل مشاكلك ، وإسعاد حياتك .
: اسمع يا عزيزى العفريت .. إننى شخص بلا مشاكل .. فالمشاكل تولد حينما يطلب الإنسان شيئاً من الآخرين ، فيعطونه ذلك الذى يطلب بشكل يختلف بدرجة أو أخرى عما تصوره هو صحيحاً ، أو تخيله محققاً لمنفعته .. ومن هنا تنشأ المشاكل ويحتدم الصراع الذى يأخذ أشكالاً كثيرة ومتنوعة .. وتجئ الأزمات التى يحياها البشر .
: وهل تخلصت أنت يا سيدى الإنسان الطيب من كل تلك المشاكل ؟!
: نعم .. وتماماً .
: ولماذا لم يفعل مثلك الآخرين ؟!
: لأنهم لا يحبون بقدر ما أحب أنا .. فأنا أحب الآخرين .. كل الآخرين .. لذلك أحيا بلا مشاكل .
: ولماذا تحبهم ؟
: لأنهم لا يرفضون لى أى مطلب .
: كيف !
: لأننى لا أطلب أشياء تعز عليهم ، ويحبون اقتناءها .. ولذا لم أسمع كلمة رفض واحدة منذ أن جعلت هذه الفلسفة موضع التنفيذ .. لهذا يحبنى الناس .. فأنا حمل خفيف على كل من يعرفنى .
: لكنك يا سيدى ربما لا تعرف أنك طلبت شيئاً عسيراً الأن ، كلمنا سيدنا سليمان بشأنه .. فأنت تطلب صفه من صفات سليمان نفسه ، وأنا لا أستطيع أن أعطيها لإنسان "بشكل مطلق" .
: ماذا تقصد بكلمة " شكل مطلق " تلك ؟
: أقصد يا سيدى أننى أعطيك هذه المقدرة لمدة يوم واحد فقط .. هذه وصية أنفذها كما سمعتها .
: أوافق .. ولنبدأ من هذه اللحظة ، وهذا هو الخاتم الذى وعدتك به ، أسلمه لك عن طيب خاطر لتمتلك حريتك .
امتدت يد العفريت المرتعشة تمسك بالخاتم ودمعات ساخنة تتساقط من عينه ، وهو يردد كلمات الشكر ، ثم ركع أمام ابن الإنسان .. وقام ليصير لسان نار ونور يشق الفضاء .
________________________
لم تمض لحظات حتى كان ذلك الإنسان الباحث عن الحكمة يقف وكأنه فى حلم ، وقد بدأ يسمع همهمات غريبة ، ولغات عجيبة تتردد من حوله .. تتبع أوضحها ومشى مستدلاً بمصدر الصوت حتى عثر على جماعة من النمل . ألقى عليهم السلام ، فلم تبد عليهم أى دهشة لوجود إنسان يعرف لغتهم .
تقدم إليه كبير النمل فى خطوات وقورة وتكلم بصوت جهورى ، لا يتناسب وتلك المخلوقات الصغيرة ، وبموجات صوتية لا تدركها الأذن البشرية لعلو ترددها ، وفى لغة جمه الأدب وعبارات متدفقة فى نظام بدأ يقول :
: عفواً يا سيدى .. فعلى ما يبدوا أنك مندهش لعدم أندهاشنا بشأن معرفتك للغة التى نتكلمها وأنت ابن الإنسان .
هز الباحث عن الحكمة رأسه بالموافقة وزاد اندهاشه لقدرة النملة على قرائة أفكاره .. بينما استطرد زعيم النمل يقول :
: منذ دقائق استمعت إليك نملة وأنت تكلم الجنى ، وقد نقلت إلينا ذلك بإشارات خاصة بنا . لا تتعجب يا سيدى . إن أجهزة مخابراتنا فى كل مكان ، ونحن نعرف عنكم الكثير ورغم هذا لم نستطع أن نقيم جسراً للصداقة فيما بيننا !
: ولكن لماذا يا سيدى رئيس النمل ؟!
: كم أنت إنسان مؤدب وحكيم ، وكان ذلك واضحاً فى حديثك مع الجنى ، وأنا حقاً سعيد بك .. إنك لست ككل البشر .. إن معظمهم مغرورون .. إنهم يظنون أننا حشرات لا قيمة لها ، وزد على هذا أنهم يظنون بنا السوء .. فيقتلوننا فى الوقت الذى نقدم فيه الحياة لهم !
: وكيف هذا سيدى الرئيس ؟!
: كم من مرة تقدمت فيها جيوش النمل إلى موائدكم وظننتموهم متطفلين .. فقتلتموهم .. إننا لا نفعل هذا بحثاً عن طعام .. فنحن لدينا ما يكفينا ومن أى شئ .. ولكن حين تهاجم الجراثيم أطعمتكم نقوم نحن بمهاجمتها لنحميكم من الأمراض ، وللأسف لا يكون الجزاء من جنس العمل ، ولولا وصية سليمان ، لكنا تركناكم وشأنكم .. ولكن هذا قدرنا نقدم الحياة لمن يعطينا الموت !
تكلم الأنسى فى خجل وكسوف :
: نحن آسفون لكم يا سيدى .. لم يكن بيننا من يعلم هذا .
: إننا ندرك ما تقول ، ولكتتا نحتاج لمجهود كبير لكى نربى أبناءنا على إنكار الذات إلى هذا الحد .
وأثناء الحديث الذى كان يدهش ابن الإنسان ويشعره بالخجل من نفسه ومن بنى جنسه ، تقدمت نملة لها لون أسود ، وعرف من الحديث أنها القائمة على الشئون الدينية ، وأنها أتت تدعو رئيس الجماعة لحضور صلاة الجنازة ، على أرواح بعض الشهداء ، الذين أحرقهم أحد البشر .
وعرف الباحث عن الحكمة أن جماعة من النمل كانت تحفر الأرض ، حين سكب عليها إنسان بعض النفط وأشعل فيها النار ، وعرف من رئيس النمل أن الشهداء فعلوا هذا لا من أجل بيوت يقيموها ، ولكن ليضيفوا لعابهم إلى التربة فتخصب الأرض ، وتتنفس جذور النباتات ، وفوق هذا ليصنعوا أدواء للإنسان والحيوان ينثرونها من حولهم .. كل ذلك إكراماً للنبى الذى أحبوه لأنه كلمهم بلغتهم .
لم يمض وقت طويل حتى كان النمل يتجه فى جماعات كبيرة ، يؤدون صلاتهم فى خضوع ، ويدعون الله أن يهب الناس المقدرة ، على فهم لغتهم ليصيروا أصدقاء !
__________________________
ترك جماعة النمل تصلى فى حرارة ، ولم يبتعد كثيراً حتى قابله حمار تبدو عليه الطيبة فأقرأة السلام .. ورد الحمار التحية بأحسن منها ، وأبدى دهشته من معرفة إنسان للغته .. فحدثه عن أمره مع الجنى ، وبدأ يلاطفه فى الكلام حتى اطمأن إليه ، واغرورقت عيناه وهو يقول فى ألم ..
: لقد ظُلمت كثيراً يا سيدى .. لقد كان جدى الأكبر من جهة أبى حماراً مباركاً .. ركب عليه "المسيح" وهو يدخل إلى أورشليم .. أنا من سلاله هذا الحمار الذى دخل التاريخ من أقدس أبوابه .. أما من جهة أمى فأنا أنتمى إلى الحمار الذى ركبه "عمر بن الخطاب " وهو يدخل نفس المدينة أيضاً .. وهكذا يا سيدى ترانى من عائلة مقدسة ، ولكنى أعمل الآن فى أسوأ الظروف مع باقى الحمير .. يصفنا الناس بالغباء والتبلد وفقدان الشجاعة ، ونحن على عكس ما يظنون .. إنهم يستنكرون أصواتنا ، وهم يعلمون أنه ليس لنا ذنب فى خلقتنا ، وهل بينكم يا بنى البشر من له حرية اختيار صوته .. أو اسمه .. أو عقيدته .. إننا نقاسى حتى ممن يقومون بعلاجنا من الأطباء البيطريين .. فإن كان هذا حال من يوظفون لراحتنا فما بالك بمن عملهم تسخيرنا طوال اليوم !
: لكنكم لا تقاومون ما يقع عليكم من ظلم .. وأنتم سعداء بما أنتم فيه !
: لا تصدق يا سيدى .. لا أحد يسعد بالظلم والمهانة ، ولكننا لا نملك قوة ندفع بها غائلة الإنسان ، ولو لا خوفى من أن تكون جاسوساً علينا لقلت لك عما ننوى فعله !
: تكلم بالله عليك ولا تخفى شيئاً .. فأنا لا يمكن أن أشى بإنسان ، يحاول أن يحرر نفسه من العبودية والظلم .. لأننى أنا نفسى ورغم أنى إنسان .. قد عانيت أكثر من أى حمار بسبب الآدميين .. إنهم لا يفرقون فى ظلمهم .. والله يسلط بعضهم على بعض .. كما يسلطون هم أنفسهم عليكم .
: الحقيقة يا سيدى الإنسان أننى أطمئن إليك .. فلولا أنك إنسان طيب ، ما أعطاك الله معجزة التكلم بلغتنا ، لذلك سأقول لك أن للصبر حدود . أننا نخفى عنكم أننا نجيد العوم الى حد كبير ، فقياداتنا تدبر ومن قديم الزمان لأمر سوف نحتاج فيه لصفة مجهولة فينا ، إنكم تبيعوننا بالأسواق فننتقل من بلد إلى أخرى ، وهكذا كانت تلتقى الحمير .. والفكرة التى أصبحت أخيراً عقيدة عند الجميع ، ستكون موضعاً للتنفيذ .. إننا سنقوم بثورة عامة .. وسنترك هذا البلد .. وفى يوم آت سوف يلقى كل الحمير بأنفسهم فى النهر الكبير .. وسوف يسبح الجميع تجاه البحر المالح ، إلى جزيرة يروى لنا عنها أجدادنا .. يقولون عنها أنها أرض الميعاد .. وهناك سوف نعيش حياتنا بحرية ودون تدخل من إنسان !
: ولكنكم ستغامرون بهذا العمل .. فأصحابكم لن يدعوكم تهربون .. سوف يطاردونكم وربما استشهد الكثيرون منكم !
: يا سيدى .. إن الموت أهون علينا من الهوان الذى نعيش فيه .. نحن تعطيكم الراحة ونضرب لكم المثل الأعلى فى الإخلاص والصبر ، وأنتم لا تقدمون لنا سوى السباب والشتائم .. إننا يا سيدى نموت كل يوم مائة مرة .. ولولا حرصنا على أن تقوى دعوتنا وتنتشر بين جميع الحمير قبل بدء الهجرة لما بقينا حتى اليوم . إننا نعرف مقدماً أننا سنفقد الكثيرين فى ثورتنا البيضاء .. ولكنه لو بقى منا اثنان فقط ، فسوف ينجبا جيلاً فى مكان آخر ، يعيش الحرية التى افتقدناها على أرضكم .
: أخى الحمار .. إننى أحيى فيكم حبكم للحرية ، وحرصكم على الكرامة التى بدأ الإنسان يفتقدها .. داسها فى نفسه أولا .. ثم داسها فى الآخرين بعد ذلك !
: سيدى الإنسان .. لقد أفشيت لك سرنا ، فأرجو ألا تبوح به لأحد .. حتى لا تكون سبباً فى الحكم علينا بمرارة العبودية إلى يوم يوم القيامة .
: أطمئن أيها الحمار الشجاع .. فسوف أكون معكم فى الجزيرة التى حدثتنى عنها ، إن حدثت ثورتكم فى حياتى .. ولأزيد من اطمئنانك أقول لك ، إننى حتى لو حدثت الناس بما عرفت عنكم ، فسيظنون بى الظنون ، ولن يصدقنى أحد .
: الآن يا سيدى استودعك الله لأن ميعاد صلاتنا قد حان .. وأنا أود أن يزيل الله عنى بالصلاة ما بى من غم وكدر !!
ابتعد الحمار خطوات ووقف ينظر إلى المساء ن ثم صاح .. هاء .. هاء .. هاء وهى فى لغتهم .. " إلى متى يا رب .. نصرخ إليك ولا تعيننا " ، ثم نفر نفرة .. يقول فيها بصوت خفيض .. "يا رب عجل لنا بالخلاص من الذل .. واحفظ أرض الميعاد من كل شر"
________________________
مشى ابن الإنسان الباحث عن الحكمة مهموماً بحكمته ، وبما عرف من ظلم الإنسان ، ليذهب إلى منزله منهك القوى يحلم بنوم هادئ .. وفى منتصف الليل أيقظه أحد جنادب الغيط ، وصفارة حادة تخرج من حلقه ، وهو يقول لجندب آخر ..
: ما أطيب هذا الإنسان .. إنه متعب من كفاحه طوال اليوم .. تعال نقبله ونغنى له ليشعر أننا سعداء به ، وليحس بأننا نحترم فيه تعبه من أجل الحياة ، فالتفت إليه الرجل وهو يشكره مقدماً على قبلاته ويرجوه ألا يفعل .. فاندهش "الجندب" من وجود إنسان يعرف لغته وهو يقول :
: سنتركك لتنام فى هدوء يا سيدى ، ولكن لى سؤال واحد .
: تفضل .
: لماذا تقتلونا كلما قبلناكم وغنينا لكم فى فرحة غامرة ، وأنتم تعودون إلينا كل يوم متعبين بهموم الحياة التى نحاول أن نخففها عنكم ؟!!
فقال له وهو يتثاءب ..
: لأننا نفتقد اللغة فيما بيننا .
_______________________ محمد البكرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق