الجمعة، 11 مايو 2018


في المقهى الكبير
==========
قصة للكاتب المصري/ محمد محمود شعبان
=========================
جميل جدا أن أجد شخصا يعشق الاستماعَ لأم كلثوم مثلي، والأجمل أن تكون الأغنيةُ المعروضةُ ( أغدا ألقاك )، تلك أغنيةٌ تخلبُ الألبابَ والأذواقَ الراقيةَ النقيةَ، لا أدري بأي إحساسٍ كتبت، ولا بأي وجدانٍ نسجت ألحانُها، لا أمَلُّ سماعَها ولو أُعِيدت في اليومِ عشرَ مراتٍ، لكن هذا الشابَّ الثلاثيني القمحي ذا الشعرِ الكثيفِ الناعمِ يلفتُ نظري بصورةٍ عجيبةٍ، يجلسُ وسطَ المقهى شطرَ التلفازِ، يشاهد بعينيه وكلِّ كيانِه، ومع كل قفلةٍ لأم كلثوم، يصيح بأجمل ( آاااااه )، مع أنَّ الناسَ من حوله في عالمٍ آخر، مجموعة هنا يتحاورون عن مباراة الريال وبارشيلونا المرتقبةِ بعدَ ساعةٍ تقريبا، يتجاذبون أطرافَ الجدالِ المقيتِ بصوتٍ عالٍ غيرَ عابئين بكلِّ مَنْ بالمقهى، أمَّا هو فسَارحٌ مع الأغنية ومواظبٌ على الآهاتِ. على الجانب الآخرِ مجموعةٌ ملتفةٌ حولَ لاعبين يلعبان الدومينو، كلا اللاعبين يتحيَّنُ دوره فيخبط القطعةَ خبْطا مثيرا للأعصاب، بتعليقاتٍ بذيئةٍ، وضحكاتٍ صاخبةٍ، ناهيك عن ( الشيشة ) وأهلها و بعضها مغمسٌ بالحشيش والأفيون، ورغم هذا الكمِّ الهائلِ من الضوضاءِ والتلوثِ السمعي والهوائي الذي يغيم على المكان إلا أن هذا الهااااائمَ في رحابِ ( أغدا ألقاك ) لا يهتمّ إلا لما يرى من عظمةِ مشاهدةِ كوكبِ الشرقِ وهي تقفُ بشموخٍ، تشيرُ بمنديلها، وتداعبُ بصوتِها ـ الذي لم يتكررـ الجمهورَ فيهتاجُ، الجمهورُ أيضا ـ جمهورَ الزمنِ الجميل ـ كان يجلس بأدب جم ينصتُ لجلالِ الكلمةِ واللحنِ بكلِّ حواسِّه.
مؤكَّد أن هذا الشابَّ كان له أبٌ مثلُ أبي ـ رحمه الله ـ، بمجرَّدِ عرضِ أغنيةٍ لأم كلثوم كان يحرصُ على أن يُجلسنا جميعًا إلى جوارِه، كنا صغارا لا نعي كلَّ شيء، لكننا كنا نرى مدى تأثرِه بما يسمع، ينتفضُ مع كل قفلةٍ ويُطلقُ الـ ( آاااااه ) بأعلى صوته قائلًا :ـ عظمة على عظمة على عظمة يا ست .. أبي كان يحافظُ على شعورِ الجارِ مهما كان، لذا فقد كان لا يستجيبُ لأمي إذا ما قالتْ له :ـ انزلْ يا رجل أبلغْ عنهم الشرطةَ، هؤلاء ناسٌ يخافون ولا يستحون .. 
ففي الأيام التي يقيم فيها عم ( متولي ) وصحبتُهُ ليالي الحظّ التي تُصدّعُ رؤوسَنَا من وقتٍ لآخر بسببٍ وبدون سبب، فيتحول الشارع كله لمقهى كبير، وتحضر الراقصاتُ ويبدأ ( النوباتشي ) في إذاعةِ وتقديمِ الفقراتِ والترحيبِ بالمدعوِّين، وتبدأ الفرقةُ في العزف والغناء للسكارى والمخمورين، كنَّا في بيتنا نتوقف عن الكلام ونتحدثُ بالإشارةِ، ونغلقُ الأبوابَ ونحشو فجواتِ الشبابيك بالقماش حتى لا يتسربَ الصوت، ونجنزرُ البوابةَ الحديدية، خوفًا من تحول الجلسةِ ـ كالمعتاد ـ لمعركة بكل أنواع الأسلحة وعندها لا يتورعون عن الهجوم على البيوت وهم سكارى ومخمورون، كما كنا لا نستطيع المذاكرة والدرس وبخاصة عندما تكون هذه الليالي أيامَ امتحانات، في تلك الليالي كان أبي يقوم بوضع القطن في آذاننا ويعقدُ عليها قماشا حتى لا نسمع شيئًا، وفي اليوم التالي عندما نذهب للمدرسة مبكرين تدوسُ نعالُنا بقايا الطعامِ وأطباقِ الفويل المملوءةِ بقشر الترمس والسوداني وبقايا من فتات الجبنِ الرومي المنثورةِ على الأرضِ وأعقابَ السجائرِ ولفائفَ البانجو المختلطةَ بكتل البلغمِ والنخامات المقرفةِ نشوط بأقدامنا عُلبَ البيرة، وزجاجاتِ ( الإستيلا )، وشرائطَ الترامادول والفودو والاستركس الفارغة..
للحق إن تلك الفتراتِ التي نحشو فيها آذانَنَا بالقطن وطبقاتِ القماش تشعرنا بإحساس الصُمّ، شعورٌ جميل كان يساعدنا على الاستذكار والتحصيل بصورة ممتازة، نعم الاستذكار والتحصيل( ههههههه )، مع أنني بالنهايةِ حصلتُ على الشهادة الجامعية ثم عملتُ بها هنا في هذا المقهى الصغير. لكن من أفضل الشخصياتِ التي تعرفتها هنا هو ذلك الشاب العاشق لأغاني أم كلثوم، وما أجمل جلساته الهادئة مع زملائه من الصم والبكم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق