الثلاثاء، 8 مايو 2018


نهايةٌ غيرُ مفاجئةٍ
===========
قصة لـ / محمد محمود شعبان
=================
وقفت ( جميلة ) أمام فاترينة الأحذيةِ، تشاهد ، يبدو عليها الترددُ، ربما لا تعجبها الموديلاتُ المعروضةُ، أو ربما الأسعارُ هي التي جعلتها تنقل بصرها من موديل أغلى إلى موديل أرخص، طالتْ وقفتها وحيرتُها، زبائنُ كثر دخلوا المحلَّ اشتروا ثم رحلوا وهي لا تزالُ متماهيةً مع حيرتها. اقتربتْ تلك السيارةُ الفارهةُ من محلِّ الأحذية، نزل قائدُها، اقترب من فاترينة الحريمي، كان بعيدا بمسافةٍ عن جميلة، شيئا فشيئا تحرك أمام الفاترينة حتى صار خلفَ جميلة مباشرةً، همس لها قائلا:ـ ألا يوجدُ شيء يعجبُكِ هنا أيضا؟. التفتتْ فإذا هو رجلٌ أربعيني لا بأسَ بواسمته، ثيابه غالية نظيفة متناسقة، والاكسسوارات الرجاليَّةُ ملفتةٌ حولَ معصمِه ورقبته.. 
سألته:ـ وهل أنت تراقبُني ؟
:ـ نعم هذا ثالثُ محلٍّ تمرِّين به ولا تشترين، هل أنت حائرة بين الموديلات؟ أنا أستطيع مساعدتَك في اختيار ما يناسبك.
..التفتت عنه وهي تقول بصوت مهتز:ـ لا . شكرا.
:ـ أمَّا إن كان السعرُ، فيمكنني أن أشتريَ أيَّ شيء تريدين، وأقدمُهُ لك هديةً ..
بالأمسِ انتشرَ مقطعُ فيديو لفتاةِ التاكسي بصورةٍ ملحوظةٍ على مواقعِ التواصلِ الاجتماعيِّ ثم انتقلَ لشاشاتِ التوك شو ليلا ليصيرَ مادةً جيدةً لملء مساحةٍ من الوقتِ الممل، وكذلك لشغل الرأي العام بالتوافه والسفاسف والفرعيات. كان المشهدُ مثيرا للاهتمام، فتاةٌ تصرخُ بغيظ في وجه سائق التاكسي، تحمل كاميرا هاتفِها، تصوره، وتتهمُهُ بالتحرشِ وأنه وضع يده على فخذها أثناءَ القيادةِ، وهو يقولُ في استسلامٍ تامٍّ لصفعاتِها ولكماتِها :ـ واللهِ لم أكنْ أقصدُ، والله لم أكن أقصد. لم يزدْ السائقُ على ذلك... لكنْ ما الذي كان يمكن أن تفعله ( جميلة ) مع هذا المتحرشِ المتأنقِ الثريِّ، أوًّلا لم تكن لتتحمل عناء التصوير، وإن كانتْ حقيبةُ يدها الصغيرةُ المهترئةُ لن تحمل سوي هاتفِ نوكيا قديمِ الطرازِ بأزرار، وبلا كاميرا، فهناك كاميرات مثبتةٌ أعلى واجهةِ المحل، فَلَإِنْ أرادت ( جميلة ) تحريرَ محضرِ تحرشٍ ضدَّهُ فلن تَثْبُتْ واقعةُ تحرشٍ مكتملةُ الأركان، ، فالرجل لم يضع يده على جسدها، ولم تَبْدُ منه إشارةٌ نابيةٌ يمكنُ أنْ تحسبَ عليه، ، كما يمكنُه بمنتهى البساطةِ أن يثبتَ أنه زبونٌ يتفرجُ كأيِّ زبون، وكونُه يقفُ أمام فاترينةِ الحريمي لا شيء فيه فربما تَذرَّعَ بانتقائِهِ هديةً لزوجته أو خطيبتِه، أما حديثه معها أمام المحل فله تخريجه وحجته البسيطة وهو أنه لجأَ إليها كشابةٍ تقتربُ من العشرين، ووجهها الجميلُ وثيابها المجسِّمَةُ يعطيانها سمتَ امرأةٍ ذاتِ ذوقٍ مائزٍ في الانتقاءِ، فطلب مساعدتَها في الاختيارِ لا أكثر، إذنْ لم تكنْ لدى (جميلة) حيلةٌ تفعلها تجاهَ ذلك المتحرش، وربما انقلب السحر عليها إنْ أرادتْ محاكاةَ فتاةِ التاكسي، فيمكنُه أمام الشرطةِ ببساطةٍ اتهامُها هي بالتحرشِ أوأنها أرادت نشلَه أو التحايلَ عليه وعندما اكتشف أمرَها ادعت أنه متحرش، والثغراتُ القانونيةُ في هذا المجالِ كثيرةٌ ولا حصرَ لها ..
لكن بالنهاية كل ذلك لم يحدثْ منه شيءٌ غيرَ أنَّ الجميلة صمتتْ أمام عرضه، مما اعتبره موافقةً صريحةً، فمدَّ هذا الجريءُ أصابعه وبهدوء لمس يدَها، قبضتْ كفَّها، فتمادى أكثرَ فأكثرَ حتى استطاع القبضَ على يدها، أخذها بهدوء، مشتْ معه مستسلمةً استسلاما عجيبا وهي تنظرُ في الأرض، دخلا المحلَّ، اشترى لها ما أرادت بكارت الفيزا، خرجا سويا، ترددتْ برهةً في ركوب السيارة، أشار لها بالدخول، فتح باب السيارة، ركبت، وأغلقت الباب بسرعة.. تصرف هذا الرجل بحرفية عاليةٍ، وكأنَّ الأمرَ معتادٌ بالنسبةِ له، لكنْ ترى ما سبب استسلام ( جميلة ) بهذه البساطة، ( جميلةُ ) يبدو عليها أنها ليستْ فتاةَ ليلٍ، ولا يبدو أنها معتادةٌ على قبول الهدايا من غرباء. إمممم!!، أكانت وفاةُ أبٍ مفاجئةٌ هي السبب؟، إممم!!، أهي الظروفُ المعيشيةُ الصعبةُ التي تواجهها هي ووالدةٌ، وأخواتٌ، وإخوةٌ بمعاش والدها البسيط الذي استحقوه بعد وفاته، لكنَّ ضيقَ ذاتِ اليدِ لا يعد مبررا كافيا لتبيعَ بنتٌ شابةٌ ذاتُ جمالٍ نفسَها وشرفها بهذه الطريقة، تذكرني ( جميلة ) ببناتٍ كثيراتٍ يشبهنها لم يقصرن، طرقْنَ بابَ العمل أكثر مرات ومرات، رَضِينَ وَهنَّ الجامعياتُ المتفوقاتُ، أن يعملنَ مرةً بعيادةِ دكتور النساء والتوليد، ومرةً بمركزِ التجميل، ومرةً مندوبةَ مبيعاتٍ على الهاتفِ بشركةِ الفلاتر، ثم غادرتْ بسبب تنمُّرِ أربابِ عملها وتحرشِّهم، وسلوكِهِمِ السيءِ معها، ماذا عساها تفعل أكثر من ذلك؟، هل تلبسُ نقابًا وتحترفُ ( الشحاتة )، وتدور تتكفّفُ الناسَ على نواصي الشوارعِ، وهذا أيضا أضحى سوقًا كبيرةً لها محتكروها ولن تستطيعَ الصمودَ فيه إلا أن تتعرفَ متعهدَ ( شحاتين ) يوفرُ لها مكانا آمنا ويحميها، وكلُّه بثمنِه!!.. ثم لِـمَ نتماهي مع فكرةِ ربط ما فعلته ( جميلة ) بفقرٍ أوضيقِ ذاتِ يدٍ، ونحن نرى نساءً ثرياتٍ، وربما متزوجاتٌ، ويسرْنَ في هذا الطريق، وما أكثرَ القصصَ في هذا المضمارِ! .. إممممم ربما فاجَأَتْنَا ( جميلة ) بنهايةٍ مباغتةٍ، وتكونُ فعلتُها هذه بمثابة تمثيلية كُبْرى نسجتْ بخيالها عقدتَها وحبكتَها والسيناريو الخاصّ بها، ونرى نهايةَ هذا المتحرشِ الثريِّ على يديها شرَّ نهايةٍ؟!.. فكرةُ الزواجِ أيضًا مستبعدةٌ، وإن طُرِحَتْ، فلن تتعدَّى ظاهرةَ العرفيّ، أو المسيار، أو، أو ... حقا لا أدري ـ وقد كنتُ أراقبُ هذا المشهدَ عبرَ كاميراتِ المراقبة ـ لِـمَ هذه السوداويةُ في تناولِ مشهدِ هذه البنتِ الجميلةِ مع هذا المتحرشِ الثريِّ؟! غيرَ أنَّ السؤالَ الملحَّ الذي يأكل دماغي ويَشِلُّ تفكيري ـ وأنا أراقبُ يوميًا مواقفَ عديدةً كهذه كلَّ يومٍ، وأقرأُ الشفاه بمهارةٍ متناهيةٍ ـ :ـ لِـمَ وافَقَتْ الجميلة بهذه السهولة على ركوبِ السيارةِ؟، وصدقًا مهما كانتْ الإجابةُ، فلن تكونَ مباغةً أبدًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق