الجمعة، 11 مايو 2018

سرديات قصيرة
ــــــــــــــــــــــــــ

وجه الحياة 
بقلم 
أحمد عبد اللطيف النجار 
كاتب عربي

للحياة وجوها كثيرة ، قد تصفو فيها أيامنا أو تملؤها غيوم الأحزان والصدمات ، وكما يقولون الحياة الدنيا لا تعطي الإنسان كل ما يتمناه ، وتلك هي حكمة الله عز وجل ومشيئته التي تخفي علي كثير من البشر .
الخير والشر في حياتنا الدنيا وجهان لعملة واحدة ، هي عملة التجربة والاختبار ، فما تراه أنت خيرا قد يكون شرا كبير ينتظرك وأنت لا تدري ( وعسي ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وه شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون ) 216 / البقرة .
إذن فالخير والشر لا يرتبطان بالبيئة أو المستوى الاجتماعي والمادي للبشر ؛ وإنما بالمستوي الأخلاقي والديني .
لذلك حثنا رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم علي قبول الزواج بمن نرضي دينه وخُلقه .
وفي واقع حياتنا تجارب فاشلة لزيجات ( متهورة ) شقت بها الفتاة عصا الطاعة علي أهلها ؛ فلم تجن غير الندم والخسران المبين .
بسمة فتاة بائسة ، حزينة ، جاءتني ذات يوم وعلي وجهها الهدوء والحذر قائلة : 
نشأت في أسرة مكونة من أربعة فتيات كنت انا أصغرهن ، توفي أبي وأنا طفلة ؛ فلم اعرف عنه شيئا سوى انه ترك لنا ميراثا يكفل لنا حياة كريمة .
كانت نشأتي مدللة وشققت طريقي في التعليم حتي تخرجت وتسلمت عملا مرموق بأحدي الهيئات الدولية في مصر .
كنت في عملي متحفظة وليس لي أي علاقات مع زملاء العمل ولم يلفت نظري أي رجل .
كانت طبيعة عملي تقتضي مني التعامل مع إحدى الهيئات الحكومية ، وهناك تعرفت علي شاكر وهو شاب في مثل عمري ، بدأ يشد انتباهي إليه بحديثه الشيّق ، العذب في كل مجالات الحياة !
بعد فترة قصيرة وجدته يطلب تحديد موعد لمقابلة أسرتي ؛ فسعدت كثيرا ونقلت رغبته لأسرتي ، ورحبوا به ، لكن
أمي طلبت بيانات عن شاكر ؛ لتطلب من عمي أن يسأل عنه ، وتعجبت من ذلك ولم أر داعيا له ، لأن مظهره وأحاديثه يؤكدان أنه شاب علي خُلق ومن أسرة طيبة .
جاءت نتيجة التحريات عكسية تماما ، ورفضت أمي الموافقة عليه وتضامنت معها شقيقاتي وكل أفراد العائلة .
خيّرتني أمي بين أسرتي وبين الزواج من هذا الشاب ، فوجدتني اختار الزوج من شاكر وأخبرته إنني عرفت عنه كل شيء ؛ لكنني اخترته وتجاوزت عن كل ماضيه ، وأنني سأكون زوجته التي حرمت نفسها من كل أسرتها لتعيش معه .
ساعتها ابتسم شاكر ابتسامة ساحرة ، مرت الشهور والأيام وكان شاكر نعم الزوج ، كان يقول لي انه سيعوضني عن فقدي لأسرتي وأصدقائي ، وبدأت استعد للزفاف ؛ فبعت ميراثي عن أبي لأن أمي رفضت مساعدتي نهائيا ، وأعلنت أنها سوف تحرمني من ميراثها !
استأجرت شقة مناسبة وقمت بتأثيثها كاملة علي نفقتي ، لأن خطيبي شاكر لم يكن يملك مليما واحدا يسهم به في تكاليف الزواج .
عشت أيام جميلة وأنا مشغولة بإعداد الشقة وشراء 
الأثاث وعمل الستائر ، ولم انتبه أو اهتم لخصام أمي لي وغضبها الصامت عليّ ، رغم وجودي معها في بيت واحد ، حتي شقيقاتي آثروا الابتعاد عني وتجنبي ارضاءا لامي وسخطا علي تصرفاتي !
انتهيت من إعداد الشقة وتم الزواج وقاطع أهلي زفافي !
زُففت إلي شاكر وغردت العصافير في عشنا الجميل .
مرت الأيام الأولي من شهر العسل رائعة ، جميلة محملة بالحب والسعادة ،ة وبعد شهر العسل بدأ زوجي شاكر يثور ويفقد أعصابه لأتفه الأسباب !
لم يزعجني ذلك في البداية ، ولكني انزعجت بشدة حين ثار ذات مرة بسبب تافه ، وإذا به يسبني ويسب أهلي وعائلتي بأفظع الألفاظ الجارحة ، ثم اندفع يحطم محتويات الشقة الجميلة !
ساعتها وقفت مذهولة وبكيت كما لم ابك من قبل !
ورغم كل ما حدث فأنه حين اعتذر لي صالحته وغفرت له ما فعل آملة ألا يعود إلي ذلك مرة ثانية !
لكن الهدوء لم يطل سوي أيام قليلة ، وأصبحت هواية شاكر الذي بعت آسرتي من اجله هي أن يثور لأتفه الأسباب ؛ ثم يصفعني ويركلني ويضربني بوحشية ، وحين اذكّره إنني وحيدة ولا احد لي في تلك الحياة 
الكبيرة الواسعة ، وإنني هجرت أهلي من اجله ؛ يجيبني بكل برود بأن ذلك هو خير ما فعلت لكي ينفرد بي ويفعل معي ما يشاء !
بعد شهور من زواجنا احضر زوجي أمه وأبيه من الحي الشعبي ليعيشا معنا لأنهم لا يطيقان بُعده عنهم ؛ فلم ارفض ظنا مني أنهم من الممكن أن يؤثروا علي ابنهم ويسهم وجودهم معنا في حمايتي من أذاه الذي أصبح يتكرر كل يوم تقريبا !
ولم أمانع كذلك في الاستجابة لطلب زوجي أن أستقيل من عملي المرموق كي أتفرغ لرعايته ورعاية والديه !
واستقلت بالفعل من عملي وفقدت راتبي الكبير وحاولت تعويضه عن طريق بيع باقي ميراثي عن أبي جزءا ، جزءا كلما ضاقت بي الحال !
وحدث عكس ما توقعته تماما ، فقد ازداد شاكر انفعالاً وعصبية وعرفت من أبويه أن تلك العصبية الهوجاء هي طابعه منذ طفولته المبكرة ، لكنه أخفاها عني بابتسامته العريضة وحديثه المعسول !
ثم صُعقت حين ضربني ذات مرة واستغثت بأبيه كي ينقذني منه ، فإذا به يأتي وبدلا من أن يحميني منه ينضم إليه ويحاول هو الآخر ضربي !!
في تلك اللحظة أدركت كم أنا غبية وبلهاء لأنني تزوجت 
ذلك المخلوق البشع الذي نزلت معه إلي أسفل درجة من الهوان والذل ، وخسرت أهلي ونفسي من اجله !!
تصادف ذات يوم أن تقابلت مع احدي قريباتي التي أبلغتني أن أمي انتقلت إلي رحمة الله منذ شهور بعد ان مرضت بالشلل عقب زواجي !
ساعتها ارتج جسمي كله وصرخت من أعماقي وانهمرت دموعي كالمطر وظللت ابكي وابكي وابكي بلا انقطاع حتي عدت إلي بيتي !
مرت الأيام عليّ حزينة ، كئيبة وصورة أمي لا تفارق خيالي ودموعي لا تتوقف عن الجريان ، وأعطاني حزني علي أمي قوة غير طبيعية لم اكن استشعرها في نفسي من قبل ، وبدأت لأول مرة بعد ثلاث سنوات من القهر والعذاب والهوان ؛ ارفع صوتي في وجه زوجي الظالم وأدافع عن نفسي وأثور لكرامتي الضائعة علي مائدة اللئام !
تجرأت ذات يوم وطلبت من ذلك المخلوق البشع الطلاق ، ففوجئت به يوافق في نفس اللحظة وبلا أي ممانعة بشرط أن أتنازل عن كل حقوقي لديه !
وبالفعل تنازلت عن الأثاث والشقة التي استأجرتها باسمي وقمت بتغيير عقد الإيجار باسمه ، وطلقني زوجي الغادر وودعني في مكتب المأذون بكلمات شامتة ، قاسية 
كشفت لي سر موافقته السريعة علي الطلاق ، فقد ابلغني انه طلقني بعد أن تأكد أن أمي قد حرمتني من ميراثها ، ثم قال لي : عودي إلي اهلك ذليلة لتعيشي خادمة عند شقيقاتك بعد ان فقدت كل شيء ... كل شيء !!
عدت لبيت أسرتي ذليلة مكسورة القلب والكرامة ، لا املك من حطام الدنيا شيئا ، بعد أن بعت آخر ما بقي من ميراث أبي !
وإذا بي أجد شقيقاتي وأزواجهن وأولادهن يستقبلونني بالدموع والأحضان والقبلات كأنني عائدة من السجن أو من سفر طويل !
وإذا بهم جميعا حولي يخففون آلامي وأحزاني ، وتصرّ شقيقتي ألكبري مديحة علي ألا تدعني في بيت الأسرة وحيدة ، وتصطحبني كي أعيش معها .
ذهبت معها وبدأت أضمد جراحي وانشغل عن آلامي بالحديث معها ومع أولادها وزوجها المحترم ، وبرؤية صديقات عمري اللاتي انقطعت عنهن .
بعد فترة قصيرة فاجأني زوج شقيقتي مديحة بأنه قد نجح في إعادتي لوظيفتي السابقة لكي اشغل نفسي بعمل مفيد ، وبعد أيام فاجأني بأن كل ما بعته من ميراث أبي قد اشتراه لي عن طريق وسطاء وأعاد تسجيله باسمي ، لأنه بخبرته في الحياة عرف أن زواجي بهذا الشاب 
\الفاسد لن يطول ، وأنني سأعود إلي أسرتي مهما طال الزمن !
حين سألته كيف سأسدد ثمن هذا الميراث الضائع ؟!
ساعتها فاجأتني أختي الحبيبة مديحة بما لم أتوقعه او احلم به !
أخبرتني أنها اتفقت مع شقيقاتي علي تجنيب نصيبي من ميراثي من أمي الذي تم توزيعه عليهن لأنه ليس من حقهن ، ولأن زوجها أكرمه الله رفض أن يدخل علي بيته وأولاده هذا المال الذي هو حقي !
ساعتها لم ادر بنفسي وانسابت دموعي أنهارا تأثراً من موقفهم النبيل معي !
ولم يمض وقت طويل حتي عرضت عليّ شقيقتي مديحة وزوجها الزواج من رجل فاضل من معارفهم ، توفيت زوجته تاركة له صبي صغير ؛ فقبلت الزواج منه وأحببت ابنه كما لو كان ابني وأكثر .
تزوجته ؛ وعرفت معني آخر للحياة الزوجية السعيدة القائمة علي الاحترام والرحمة واحترام مشاعر الطرف الآخر .
وبعد عام أنجبت ولد رائع وأصبح لي ولدان يتقاسمان فلبي مع أبيهم الذي أغرقني بعطفه وكرم أخلاقه .
لقد محي من نفسي وروحي ما تبقي من آثار تجربتي 
القديمة المؤلمة ، والحمد لله كبر ولدأي وتقدما في مراحل الدراسة والعمر ، وأصبحت افخر بتفوقهم العلمي ، وكان لعظم درس حرصت علي ان اعلمه لهم هو ألا يخدعا أبدا فتاة وألا يساعداها علي الخروج عن طاعة أهلها بالكلام المعسول ، المزخرف ، فيهدما أسرة متحابة تعش في سلام وامان .
//// تلك كانت قصة فتاة مسكينة يتيمة غرّر بها شيطان من شياطين الإنس ، نستخلص منها الكثير من العبر والدروس .
أول تلك الدروس هو أن الثقة في كل أحد عجز !!
نعم فقد وثقت بسمة في شاب غادر ، مخادع لم يكن عند حسن ظنها ، بل كان أسوأ زوج في الوجود !
ذلك لأنه بطبيعته إنسان متسلق ، انتهازي يطيب له ان يعيش علي عرق النساء ، وليس عنده نخوة ولا أي صفة من صفات الرجولة !
ها هي المسكينة بسمة قد عاشت معه في قهر وهوان وحرمان ودموع متواصلة ليل نهار ، ذلك لأنها أساءت الاختيار واتخذت القرار الخاطئ بتضحيتها بأمها وأهلها جميعا من ذلك الصعلوك الجبان !
وتلك هي سُنة العلاقات الأسرية ؛ نري فيها الخير والشر من عدة زوايا ووجوه ، بحيث تتجمع تلك الزوايا في 
وجه واحد ، هو وجه الحياة بخيرها وشرها ، وحلوها ومُرها .
لكل تجربة صعبة في حياتنا ثمن غال ندفعه من دمنا وأعصابنا ورصيدنا المتناقص من الايام .
لعل وعسي تكون تجربة بسمة عظة وعبرة لكل فتاة تشق عصا الطاعة علي أهلها من اجل مخلوق بشري حقير ، لا يساوى أن نخسر أهلنا من اجله !
وما أثلج صدري حقا في مأساة بسمة ؛ هو موقف شقيقاتها النبيل منها ووقوفهن بجانبها في محنتها ومساعدتها علي عبور بحر الآلام ، والوصول بسلامة إلي شاطئ الأمان والإيمان .
ذلك هو حق الإخوة علي الإخوة ، وتلك هي صلة الرحم والتراحم التي دعانا إليها رب العالمين من فوق سبع سماوات طباق ، وهذا من حسن طالع بسمة أن سخر لها قلوب شقيقاتها وأزواجهن ؛ فصاروا جميعا يشكلون حائط السد المنيع الذي حمي بسمة من آلامها وغدر الزمان بها ، وشكلوا معا لوحة تعبيرية إيمانية رائعة من الإخلاص والتراحم تزين لنا وجه الحياة .
ــــــــــــــــــــــــ والله الموفق والمستعان ــــــــــــــــــــ
أحمد عبد اللطيف النجار 
كاتب عربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق