في كبد الحديقة
في إحدى الحدائق العامة. جلست سيدة في سنّ الأربعين، تتأمّل المارّين أمامها وترسم بخيالها قصصا عنهم، بما تصوّرها لها عيناها. حتى صادفت وجها لطفلة أوقفت عجلة المخيّلة لتنحت ببسمة براءتها جمالا يشّدّ إليها كلّ حواس السيدة . تلك الطفلة التي تبدو في سن الستّ سنوات بثيابها البالية و شعرها الأشعث ونعلها الذي يلفظ أنفاسه تحت مداس أقدامها وهي تضّم إليها دميتها العارية لم تُبعد نظرها عن السيدة حتى تمكّنت من قلبها و أمالت رأسها كأنها تبغي أن تخبرها بأمرّ، لكنَّها لا تجرأ على الاقتراب منها. لاحظت السيدة ما تحمله تلك العينان البنيّتان من كلام فأرادت أن تلاطف الصغيرة بقطعة حلوى أخرجتها من جيب حقيبتها لتعرضها على نبع البراءة المقابلِ لها .ما أن رأت الصغيرة قطعة حلوى الشكلاطة المقدّمة لها حتى هرعت إلى السيدة و أخدتها منها لتقضمها بلهفة و تلذذ و هي لا تكّف عن النظر. ثمّ انحنت راكعة و مدّت يدها لأسفل المقعد الذي تجلس عليه السيدة لتقدم نصف الحلوى لقطّتها الصغيرة التي تمددت في سكون هربا من صاحبتها. لاحظت السيدة أنَّ الطفلة لم تنده على القطة و لم تحاول إخراجها بشدّها وسحبها من مكانها فبقيت تراقب ما سيكون عليه حال الجميلة و القطة . تمددت الطفلة أرضا لا همها تراب المّارة الذي يلتصق بها و بقيت تتمايل يُمنة و يسارا كمن لا تشعر بما حولها و هي تموء مواء القطط تخاطب صديقتها تحت سقف المقعد .عندها سألتها السيدة:" أأنتِ وحدكِ؟ أخبريني أين أهلكِ؟ هل تسكنين قريبا من هنا ؟ اسمعي إن شئتِ نخرجُ القطة سويا و نذهب بها إلى أمّكِ ما رأيك ؟". رفعت الصغيرة رأسها ثمّ عاودت لحن المواء كأنها لم تسمع حديث السيدة .في لحظة من الفضول قامت السيدة عن المقعد و حاولت سحب القطة لكنّها فرّت منها و فرّت الطفلة كذلك لتلحق بها فلحقت السيدة بمن سبقها الفرار و الفضول يشدّها لمعرفة سرّ هذه الطفلة حتى وصلت بوابة الحديقة هناك رأت شابا في الخامسة عشر من عمره يمسح أحذية روّاد الحديقة و خلفه اختبأت الطفلة تطلب الأمن وكأنّ شيئا ما أفزعها ؟ حاولت أن تقترب منهما فبدأت الصغيرة بالبكاء ليضمّها أخاها إليه و يحاول إسكاتها سألته السيدة:" أهي أختك ؟". فردّ عليها: "نعم سيدتي هي أختي خرساء لا يمكنها الكلام" .فقالت :" أين والدتها ؟ و لما هي معك هنا " فرّد:" ماتت أمي حين ولادتها وتزوج أبي من طردتنا من بيت أمي لعلمها بأنها من دار الأيتام لا من يعيلنا و لا من يكفلنا من الأهل وأنا هنا من يتكلّف بنا حتى يشتدّ الساعد و نعود لدار أمي ". بقيت السيدة كمومياء محنّطة ساكنة لا يتحرك لها جفن و لا تستوعب ما تراه . كيف لأب أن يرمي بعياله خارج البيت و هو يعلم أنه لا أحد سيرعاهم ؟ كيف لهذا المجتمع أن يتنكّر لطفولة تقتات من مسح الجزم و يعيش في شوارع مدينة ليلها كنهارها من فخر مترفيها ؟كيف لطفل أن يربي أخته الخرساء و هو يعمل ليقتات ؟دوامة من الأسئلة سرقت منها روحها لتُبكمَ الفاه .تبسّم الولد و هو يعيد ترتيب ثياب اخته و يمدها بدميتها و يشير إليها أن تعود للحديقة حتى يتّم عمله . بقيت السيدة تنظر في صمت الأموات لهذا المشهد الحيّ و تراقب الملاك اليتيم وهو يسابق الخطوات يبحث عن قطّة فرّت في شعاب الحديقة .كأنها الرفيقة التي لا مناص من البحث عنها لرعايتها. عند هذه اللحظة أدركت السيدة الفراغ الذي عاشته طوال عشر سنوات من الترمل بلا عيال يؤنسون وحدتها وهي تأتي كلَّ أسبوع للحديقة تملأ مخيّلتها بما ترويه وجوه المارّة من بذور الخيال أمامها . و اليوم تسكنها الحكاية و تهزّها كزلزال يخبرها أنّ بسمة الطفلة لم تكن لتنال منها قطعة حلوى بل قطعة في قلبها لتشعرها بأمومة لم تعرفها يوما و تنبهها أنّ البيت الكبير الذي لا يسكنه سواها هو بيت لهذه الطفلة و أخوها الشجاع الذي يرعاها في عرين حديقة لا يأبه الناس فيها ببعضهم إلا قليلا .
استدارت السيدة تكلّم الرجل الصغير فتقول له في صوت يشوبه رعشة قويّة في مخارج الكلمات فتقول له و عيناها تألقت بدمع حنان :" أتقبل أن أكفلكما في بيتي ؟" . نظر الشاب إليها و قال :" فررت من الملاجئ حتى لا يفرقوني عن اختي أو يدفعوا بها إلى مراكز البكم بعيدا عني فكيف يكون لنا بيتا وأختي خرساء ؟" قالت :" تقبّلني ، و لن تعانيان بعد اليوم هذا وعد مني أمام الله ". بكى الاثنان غربة القلب وفاقة الحنان و كأنّ عيونهم قد أبرمت عقد الأسرة على باب حديقة في مدينة يسودها الضجيج كما تسود أزقّتها المآسي طفولة ترعاها طفولة .و هناك في كبد الحديقة تجوب شرايين الحياة حياة مشرّدة تفتح لها سيدة في الأربعين نافدة الأمل لغد لا يعلم أحد ما يكون من أمره
السيدة بوزادة فاطمة الزهراء
في إحدى الحدائق العامة. جلست سيدة في سنّ الأربعين، تتأمّل المارّين أمامها وترسم بخيالها قصصا عنهم، بما تصوّرها لها عيناها. حتى صادفت وجها لطفلة أوقفت عجلة المخيّلة لتنحت ببسمة براءتها جمالا يشّدّ إليها كلّ حواس السيدة . تلك الطفلة التي تبدو في سن الستّ سنوات بثيابها البالية و شعرها الأشعث ونعلها الذي يلفظ أنفاسه تحت مداس أقدامها وهي تضّم إليها دميتها العارية لم تُبعد نظرها عن السيدة حتى تمكّنت من قلبها و أمالت رأسها كأنها تبغي أن تخبرها بأمرّ، لكنَّها لا تجرأ على الاقتراب منها. لاحظت السيدة ما تحمله تلك العينان البنيّتان من كلام فأرادت أن تلاطف الصغيرة بقطعة حلوى أخرجتها من جيب حقيبتها لتعرضها على نبع البراءة المقابلِ لها .ما أن رأت الصغيرة قطعة حلوى الشكلاطة المقدّمة لها حتى هرعت إلى السيدة و أخدتها منها لتقضمها بلهفة و تلذذ و هي لا تكّف عن النظر. ثمّ انحنت راكعة و مدّت يدها لأسفل المقعد الذي تجلس عليه السيدة لتقدم نصف الحلوى لقطّتها الصغيرة التي تمددت في سكون هربا من صاحبتها. لاحظت السيدة أنَّ الطفلة لم تنده على القطة و لم تحاول إخراجها بشدّها وسحبها من مكانها فبقيت تراقب ما سيكون عليه حال الجميلة و القطة . تمددت الطفلة أرضا لا همها تراب المّارة الذي يلتصق بها و بقيت تتمايل يُمنة و يسارا كمن لا تشعر بما حولها و هي تموء مواء القطط تخاطب صديقتها تحت سقف المقعد .عندها سألتها السيدة:" أأنتِ وحدكِ؟ أخبريني أين أهلكِ؟ هل تسكنين قريبا من هنا ؟ اسمعي إن شئتِ نخرجُ القطة سويا و نذهب بها إلى أمّكِ ما رأيك ؟". رفعت الصغيرة رأسها ثمّ عاودت لحن المواء كأنها لم تسمع حديث السيدة .في لحظة من الفضول قامت السيدة عن المقعد و حاولت سحب القطة لكنّها فرّت منها و فرّت الطفلة كذلك لتلحق بها فلحقت السيدة بمن سبقها الفرار و الفضول يشدّها لمعرفة سرّ هذه الطفلة حتى وصلت بوابة الحديقة هناك رأت شابا في الخامسة عشر من عمره يمسح أحذية روّاد الحديقة و خلفه اختبأت الطفلة تطلب الأمن وكأنّ شيئا ما أفزعها ؟ حاولت أن تقترب منهما فبدأت الصغيرة بالبكاء ليضمّها أخاها إليه و يحاول إسكاتها سألته السيدة:" أهي أختك ؟". فردّ عليها: "نعم سيدتي هي أختي خرساء لا يمكنها الكلام" .فقالت :" أين والدتها ؟ و لما هي معك هنا " فرّد:" ماتت أمي حين ولادتها وتزوج أبي من طردتنا من بيت أمي لعلمها بأنها من دار الأيتام لا من يعيلنا و لا من يكفلنا من الأهل وأنا هنا من يتكلّف بنا حتى يشتدّ الساعد و نعود لدار أمي ". بقيت السيدة كمومياء محنّطة ساكنة لا يتحرك لها جفن و لا تستوعب ما تراه . كيف لأب أن يرمي بعياله خارج البيت و هو يعلم أنه لا أحد سيرعاهم ؟ كيف لهذا المجتمع أن يتنكّر لطفولة تقتات من مسح الجزم و يعيش في شوارع مدينة ليلها كنهارها من فخر مترفيها ؟كيف لطفل أن يربي أخته الخرساء و هو يعمل ليقتات ؟دوامة من الأسئلة سرقت منها روحها لتُبكمَ الفاه .تبسّم الولد و هو يعيد ترتيب ثياب اخته و يمدها بدميتها و يشير إليها أن تعود للحديقة حتى يتّم عمله . بقيت السيدة تنظر في صمت الأموات لهذا المشهد الحيّ و تراقب الملاك اليتيم وهو يسابق الخطوات يبحث عن قطّة فرّت في شعاب الحديقة .كأنها الرفيقة التي لا مناص من البحث عنها لرعايتها. عند هذه اللحظة أدركت السيدة الفراغ الذي عاشته طوال عشر سنوات من الترمل بلا عيال يؤنسون وحدتها وهي تأتي كلَّ أسبوع للحديقة تملأ مخيّلتها بما ترويه وجوه المارّة من بذور الخيال أمامها . و اليوم تسكنها الحكاية و تهزّها كزلزال يخبرها أنّ بسمة الطفلة لم تكن لتنال منها قطعة حلوى بل قطعة في قلبها لتشعرها بأمومة لم تعرفها يوما و تنبهها أنّ البيت الكبير الذي لا يسكنه سواها هو بيت لهذه الطفلة و أخوها الشجاع الذي يرعاها في عرين حديقة لا يأبه الناس فيها ببعضهم إلا قليلا .
استدارت السيدة تكلّم الرجل الصغير فتقول له في صوت يشوبه رعشة قويّة في مخارج الكلمات فتقول له و عيناها تألقت بدمع حنان :" أتقبل أن أكفلكما في بيتي ؟" . نظر الشاب إليها و قال :" فررت من الملاجئ حتى لا يفرقوني عن اختي أو يدفعوا بها إلى مراكز البكم بعيدا عني فكيف يكون لنا بيتا وأختي خرساء ؟" قالت :" تقبّلني ، و لن تعانيان بعد اليوم هذا وعد مني أمام الله ". بكى الاثنان غربة القلب وفاقة الحنان و كأنّ عيونهم قد أبرمت عقد الأسرة على باب حديقة في مدينة يسودها الضجيج كما تسود أزقّتها المآسي طفولة ترعاها طفولة .و هناك في كبد الحديقة تجوب شرايين الحياة حياة مشرّدة تفتح لها سيدة في الأربعين نافدة الأمل لغد لا يعلم أحد ما يكون من أمره
السيدة بوزادة فاطمة الزهراء
الشاعره والاديبه المتميزه فاطمه الزهراء بوزاده خالص شكري وتقديري واحترامي لما يخطه يمينك من حروف تسري الروح وتنعم بها النفس دمت ودامت حروفكم مصدر إسعاد لنا
ردحذفرائعة استاذة
ردحذفرائعة استاذة
ردحذف